يختلف الشرطي الأمريكي الأسمر وين بيرتون Wayne Barton من الخارج عن أي شرطي مفتول العضلات تراه أمامك، ذلك لأن اختلافه يأتي من داخله، نابعا من قلبه الكبير. حين بدأ عمله كشرطي في عام 1980، فإنه تدرج من العمل على ظهر دراجة بخارية يجوب بها شوارع مدينة بوكا راتون Boca Raton بولاية فلوريدا، إلى العمل في قسم مكافحة المخدرات، حيث شاهد كيف حكم تجار الموت شوارع المدينة وأحيائها وأكثروا فيها الفساد.
خلال عمله في عام 1985 تلقى بيرتون عدة شكاوى من قاطني حي ما أن الشرطة ترفض الاستجابة لبلاغات أهل هذا الحي من كثرة مشاكله والعنف المتفشي بين أرجائه. بحث بيرتون في الأمر فوجد أن هذا الحي يعاني من قلة الاهتمام به والرعاية، ومن انتشار الجريمة في شوارعه، ومن فقدان ساكنيه لافتخارهم بالسكن في حي مثل هذا الحي. نظر بيرتون ما الذي يمكن له أن يقدمه لأهل هذا الحي، فلم يجد سوى نفسه، ولذا قرر تنظيم حفل شواء في حديقة الحي، دعا إليها من يريد الحضور، شريطة أن يساهم في بعض أعمال النظافة، وفي تنظيف الحديقة بعد هذا الحفل.
جاءت الوجبة المجانية بمفعول السحر، إذ حضر 190 مدعوا ليذوقوا كرم بيرتون، ولم يكن عليهم سوى تنظيف الحي، فرفعوا هياكل السيارات القديمة من الشوارع، وقصوا الحشائش العشوائية، ودهنوا الأسوار التي علتها الدهانات والألوان الفجة. لم يقف بيرتون عند هذا الحد، إذ بدأ يدق أبواب سكان الحي، وبدأ يسأل عما ينقصهم، فهذا البيت اشترى له مستلزمات المدارس، وهذا أعطاه بعض النقود، وهذا ذهب مع أهله للمتجر لشراء بعض البقالة… كل هذا من ماله ووقته الخاص!!
بعد تنظيف قمامة الشوارع، جاء وقت تنظيف قمامة البشر، حيث عمد بيرتون إلى مطاردة تجار المخدرات النشيطين في هذا الحي، لكن هؤلاء التجار كانوا الآباء والإخوان والأولاد لسكان هذا الحي، الأمر الذي أكسب بيرتون عداوة أهل الحي، حتى أنه تلقى تهديدات بالقتل، وزج في السجن برجل شرع فعل في محاولة قتله، وبدأت عبارات التهديد والوعيد له تكتب على حوائط طرقات الحي.
كاد كل ما قدمه يضيع هباء، لولا اجتماع مع سكان الحي حضره بيرتون، وشهد تعالي أصوات الحضور الغاضبة منه والراغبة في إبعاده، حتى تقدمت سيدة من الحضور وطلبت الكلمة، وحكت قصتها، التي تمحورت حول قدرتها الآن على الخروج من باب بيتها إلى الشارع دون خوف، وكيف أنها لم تعد تنام على الأرض اتقاء لشر طلقة رصاصة عابرة من جيران الشر، وأنها بدأت تعرف معنى الأمان في منزلها، وكل هذا بفضل هذا الرجل، الذي زج بالمجرمين خلف القضبان، وأبدل جحيم الحي الذي تسكنه مكانا يمكن العيش فيه بسلام وعزة نفس.
هذه الكلمة شجعت آخرين ليتقدموا ويحكوا قصصا مماثلة، وبدأت روح العداء تتبدل إلى نظرة امتنان وعرفان، الأمر الذي ساعد بيرتون على تنفيذ بقية خططه، مثل افتتاح مركز الشرطة الذي يعمل فيه لمركز تدريب لصغار الحي يُلقي دروس العلم فيه متطوعون لمساعدة تلاميذ الحي على استذكار دروسهم، وبعدها افتتحوا معمل حواسيب / كمبيوترات، وأقاموا ندوات للآباء لمساعدتهم على التعلم ونيل الشهادات ليزيدوا فرصهم في الحصول على وظائف أفضل مما في عالم الجريمة.
كان كلما عانى أهل الحي من مشكلة تقدم بيرتون لمحاولة حلها، وبعد مرور عام، تغيرت الصورة تماما، فما أن تظهر الشرطة في الحي حتى يحيها السكان بالامتنان، وبدأ أهل الحي يهتمون به وساعدوا الشرطة على القبض على فلول المجرمين الرافضين للتغيير. بعد قضائه 20 عاما في الخدمة، تقاعد بيرتون وبمساعدة رجال أعمال أسس مؤسسة لمساعدة الناس لكي يساعدوا غيرهم، وتولى رعاية التلاميذ ومكافأتهم على نبوغهم العلمي، وبدأ يعد البرامج التعليمية والثقافية لهم، وأرسل العديد منهم للجامعات، وأعد كذلك برامج تغذية لتوصيل الطعام إلى غير القدرين على شرائه…
لا يختلف بيرتون عن أي شخص عادي، ولم يحصل على دعم مالي خارجي، اللهم إلا راتبه، ولم ينتظر الحكومة ولا الوزير، بل قضى وقته في مساعدة من حوله.كل هذا الخير كان لا بد وأن يجلب له التقدير والاهتمام، وهو ما حدث له بعدها.
حل مشاكلنا يكمن دائما فينا، أن نبحث نحن عن حل يمكن تطبيقه، وأن نعتمد على الناس، وعلى مبدأ التطوع…
في بلدي مصر، كان هناك رجل اسمه عمرو خالد، أراد فعل شيء مماثل، لكن حاكما اسمه حسني مبارك منعه، بل وطرده من بلده، خوفا من لمعان نجمه، فيغطي على ابنه الذي كان يعده ليحمل أوزار الرئاسة. اليوم، خاب مسعى الفرعون – كما هي عادة الفراعنة غير الصالحين – وعاد المطرود ليمارس عمله في الإصلاح، فاللهم بارك لكل مصلح وأيده وانصره وأعنه، وهيء لهم من يعينهم على الإصلاح، واللهم خيب مسعى كل فاسد مفسد، واجعل تدبيره تدميره، هو وكل من شايعهم وناصرهم وساعدهم على الظلم.